فصل: سئل:عمن عليه غسل وتعذر عليه الماء ثم تيمم وله في الجامع وظيفة هل يأثم؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصــل

وأما التيمم لكل صلاة، ولوقت كل صلاة، ولا يصلي الفرض بالتيمم للنافلة؛ لأن التيمم طهارة ضرورية، والحكم المقدر بالضرورة مقدر بقدرها، فلا يتيمم قبل الوقت، ولا يبقى بعده‏.‏ وهو مبيح للصلاة لا رافع للحدث؛ لأنه إذا قدر على استعمال الماء استعمله من غير تجدد حدث، فعلم أن الحدث كان باقيًا، وإنما أبيح للضرورة،/ فلا يستبيح إلا ما نواه‏.‏ فهذا هو المشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد‏.‏

وقيل‏:‏ بل التيمم يقوم مقام الماء مطلقًا، يستبيح به كما يستباح بالماء، ويتيمم قبل الوقت كما يتوضأ قبل الوقت، ويبقى بعد الوقت كما تبقى طهارة الماء بعده‏.‏ وإذا تيمم لنافلة صلى به الفريضة، كما أنه إذا توضأ لنافلة صلى به الفريضة‏.‏ وهذا قول كثير من أهل العلم، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الثانية‏.‏ وقال أحمد‏:‏ هذا هو القياس‏.‏

وهذا القول هو الصحيح، وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار؛ فإن اللّه جعل التيمم مطهرًا كما جعل الماء مطهرًا‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏6‏]‏ فأخبر ـ تعالى ـ أنه يريد أن يطهرنا بالتراب، كما يطهرنا بالماء‏.‏

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏فضلنا على الناس بخمس‏:‏ جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وأحلت لنا الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي‏.‏ وجعلت لي الأرض مسجدًا، وطهورًا‏)‏ وفي لفظ‏:‏ فأيما رجل أدركته الصلاة من أمتي فعنده مسجده وطهوره، /وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة‏.‏ وبعثت إلى الناس عامة‏)‏ وفي صحيح مسلم عن حذيفة أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏فضلنا على الناس بثلاث‏:‏ جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجدًا، وتربتها لنا طهورًا‏)‏‏.‏

فقد بين صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أن اللّه جعل الأرض لأمته طهورًا، كما جعل الماء طهورًا‏.‏

وعن أبي ذر قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الصعيد الطيب طهور المسلم، ولو لم يجد الماء عشر سنين‏.‏ فإذا وجدت الماء فأمسسه بشرتك فإن ذلك خير‏)‏ قال الترمذى ‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ فأخبر أن اللّه جعل الصعيد الطيب طَهُور المسلم، ولو لم يجد الماء عشر سنين‏.‏

فمن قال‏:‏ أن التراب لا يطهر من الحدث، فقد خالف الكتاب والسنة‏.‏ وإذا كان مطهرًا من الحدث امتنع أن يكون الحدث باقيًا، مع أن اللّه طهر المسلمين بالتيمم من الحدث، فالتيمم رافع للحدث، مطهر لصاحبه، لكن رفع موقت إلى أن يقدر على استعمال الماء، فإنه بدل عن الماء، فهو مطهر ما دام الماء متعذرًا، كما أن الملتقط يملك اللقطة ما دام لم يأته صاحبها، وكان ملك صاحبها ملكا مؤقتا إلى ظهور المالك، فإنه/ كان بدلاً عن المالك، فإذا جاء صاحبها خرجت عن ملك الملتقط إلى ملك صاحبها‏.‏ وما ثبت بنص أو إجماع لا يطلب له نظير يقاس به، وإنما يطلب النظير لما لا نعلمه إلا بالقياس والاعتبار‏.‏ فيحتاج أن نعتبره بنظير‏.‏ وأما ما شرعه اللّه ورسوله، فعلينا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا، ولا نطلب لذلك نظيرًا، مع أن الاعتبار يوافق النص‏.‏ كما قال أحمد ‏:‏ القياس أن تجعل التراب كالماء‏.‏

وعلى هذا القول الصحيح، يتيمم قبل الوقت ـ إن شاء ـ ويصلي ما لم يحدث، أو يقدر على استعمال الماء‏.‏ وإذا تيمم لنفل صلى به فريضة، ويجمع بالتيمم الواحد بين فرضين، ويقضى به الفائت‏.‏

وأصحاب القول الآخر احتجوا بآثار منقولة عن بعض الصحابة وهي ضعيفة لا تثبت، ولا حجة في شيء منها ـ ولو ثبتت‏.‏ وقول القائل‏:‏ إنها طهارة ضرورية فتقدر بقدر الحاجة، قيل له‏:‏ نعم، والإنسان محتاج ألا يزال على طهارة، فيتطهر قبل الوقت؛ فإنه محتاج إلى زيادة الثواب، ولهذا يصلي النافلة بالتيمم باتفاق المسلمين، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تيمم لرد السلام في الحضر، وقال‏:‏ ‏(‏إني كرهت أن أذكر اللّه إلا على طهر‏)‏، فدل على أن التيمم يكون مستحبًا تارة، وواجبًا أخرى‏.‏ أي يتيمم في وقت لا يكون التيمم واجبًا عليه أن يتيمم، وإن كان شرطًا للصلاة‏.‏ والتيمم/ قبل الوقت مستحب، كما أن الوضوء قبل الوقت مستحب‏.‏

وأصح أقوال العلماء أنه يتيمم لكل ما يخاف فوته، كالجنازة وصلاة العيد، وغيرهما مما يخاف فوته، فإن الصلاة بالتيمم خير من تفويت الصلاة، كما أن صلاة التطوع بالتيمم خير من تفويته، ولهذا يتيمم للتطوع من كان له ورد في الليل يصليه، وقد أصابته جنابة، والماء بارد يضره، فإذا تيمم وصلى التطوع، وقرأ القرآن بالتيمم كان خيرًا من تفويت ذلك‏.‏

فقول القائل‏:‏ إنه حكم مقيد بالضرورة، فيقدر بقدرها إن أراد به ألا يفعل إلا عند تعذر الماء، فهو مسلم‏.‏ وإن أراد به أنه لا يجوز التيمم إلا إذا كان التيمم واجبًا، فقد غلط‏.‏ فإن هذا خلاف السنة، وخلاف إجماع المسلمين، بل يتيمم للواجب، ويتيمم للمستحب كصلاة التطوع، وقراءة القرآن المستحبة، ومس المصحف المستحب‏.‏

واللّه قد جعله طهورًا للمسلمين عند عدم الماء، فلا يجوز لأحد أن يضيق على المسلمين ما وسع اللّه عليهم، وقد أراد رفع الحرج عن الأمة فليس لأحد أن يجعل فيه حرجا‏.‏ كما فعله طائفة من الناس‏.‏ أثبتوا فيه من الحرج ما هو معلوم‏.‏

ولهذا كان الصواب أنه يجوز التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين/ولا يجب فيه ترتيب، بل إذا مسح وجهه بباطن راحتيه أجزأ ذلك عن الوجه والراحتين، ثم يمسح ظهور الكفين بعد ذلك فلا يحتاج أن يمسح راحتيه مرتين، وعلى هذا دلت السنة‏.‏ وبسط هذه المسائل في موضع آخر‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وَسئل شَيْخ الإسْلام ـ رحمه اللّه ـ عن الرجل إذا لم يجد ماء، أو تعذر عليه استعماله لمرض، أو يخاف من الضرر من شدة البرد، وأمثال ذلك‏.‏ فهل يتيمم أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

التيمم جائز إذا عدم الماء، وخاف المرض باستعماله، كما نبه اللّه تعالى ـ على ذلك بذكر المريض، وذكر من لم يجد الماء‏.‏ فمن كان الماء يضره بزيادة في مرضه؛ لأجل جرح به، أو مرض، أو لخشية البرد ونحو ذلك، فإنه يتيمم سواء كان جنبًا أو محدثا، ويصلي‏.‏

وإذا جاز له الصلاة جاز له الطواف، وقراءة القرآن، ومس المصحف، واللبث في المسجد‏.‏ ولا إعادة عليه إذا صلى، سواء كان في الحضر أو في السفر، في أصح قولي العلماء‏.‏

فإن الصحيح‏:‏ أن كل من فعل ما أمر به بحسب قدرته من غير/تفريط منه، ولا عدوان، فلا إعادة عليه، لا في الصلاة، ولا في الصيام، ولا الحج‏.‏ ولم يوجب اللّه على العبد أن يصلي الصلاة الواحدة مرتين، ولا يصوم شهرين في عام، ولا يحج حجين‏.‏ إلا أن يكون منه تفريط، أو عدوان‏.‏ فإن نسي الصلاة كان عليه أن يصليها إذا ذكرها، وكذلك إذا نسي بعض فرائضها‏:‏ كالطهارة، والركوع، والسجود‏.‏ وأما إذا كان عاجزًا عن المفروض‏:‏ كمن صلى عريانًا لعدم السترة، أو صلى بلا قراءة لانعقاد لسانه، أو لم يتم الركوع والسجود لمرضه ونحوذ لك، فلا إعادة عليه‏.‏ ولا فرق بين العذر النادر، والمعتاد ، وما يدوم وما لا يدوم‏.‏

وقد اتفق المسلمون على أن المسافر إذا عدم الماء صلى بالتيمم، ولا إعادة عليه، وعلى أن العريان إذا لم يجد سترة صلى، ولا إعادة عليه‏.‏ وعلى أن المريض يصلي بحسب حاله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين‏:‏ صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب‏)‏ ولا إعادة عليه‏.‏

 وَسُئِلَ ـ رَحمه اللّه ـ عن رجل يصبح جنبًا، وليس عنده ما يدخل به الحمام، ولا يمكنه أن يغتسل في بيته من أجل البرد، فهل له أن يتيمم ويصلي،/ ويقرأ القرآن أم لا‏؟‏ وهل إذا فعل ذلك تجب عليه الإعادة أم لا‏؟‏ وإذا كان عنده ما يرهنه على أجرة الحمام فهل يجب عليه ذلك أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، يجوز للرجل إذا عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله، وإن كان جنبًا‏.‏ فإذا خشي إذا اغتسل بالماء البارد أن يضره، ولا يمكنه الاغتسال بالماء الحار في بيت ولا حمام، ولا غيرهما، جاز له التيمم، ولا إعادة ـ على الصحيح ـ وإن أمكنه دخول الحمام بجعل، وجب عليه ذلك، إذا كان واجدًا لأجرة الحمام من غير إجحاف في ماله، كما يجب شراء الماء للطهارة‏.‏ وإذا كان ممن يمكنه أن يرهن عند الحمامي الطابية والميزب، ويوفيه في أثناء يوم، ونحو ذلك، فعله‏.‏ وإن كان في أداء أجرة الحمام ضرر كنقص نفقة عياله، وقضاء دينه، صلى بالتيمم ‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وَسُئِلَ ‏:‏ عن رجل وقع عليه غسل، ولم يكن معه في ذلك الوقت ما يدخل به الحمام، ويتعذر عليه الماء البارد لشدة برده، ثم إنه تيمم وصلى الفريضة، وله في الجامع وظيفة فقرأ فيها، ثم بعد ذلك دخل الحمام، هل يأثم أم لا ‏؟‏

/فأجاب‏:‏

الحمد للّه رب العالمين، لا يأثم بذلك، بل فعل ما أمر به؛ فإن من خاف إذا استعمل الماء البارد أن يحصل له صداع أو نزلة أو غير ذلك من الأمراض، ولم يمكن الاغتسال بالماء الحار، فإنه يتيمم ـ وإن كان جنبًا ـ ويصلي عند جماهير علماء الإسلام ـ كمالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم ـ حتى لو كان له ورد بالليل، وأصابته جنابة، والماء بارد يضره، فإنه يتيمم، ويصلي ورده التطوع، ويقرأ القرآن في الصلاة، وخارج الصلاة، ولا يفوت ورده لتعذر الاغتسال بالماء‏.‏

وهل عليه إعادة الفريضة‏؟‏ على قولين‏:‏

أحدهما ‏:‏ لا إعادة عليه‏.‏ وهو قول مالك، وأحمد في إحدى الروايتين‏.‏

والثاني‏:‏ عليه الإعادة، وهو قول الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى‏.‏ هذا إذا كان في الحضر‏.‏ وأما المسافر فهو أولى ألا يعيد وهو مذهب الشافعي في أحد قوليه، وكل من جازت له الصلاة بالتيمم جازت له القراءة واللبث في المسجد بطريق الأولى‏.‏

والصحيح‏:‏ أنه لا إعادة عليه، ولا على أحد صلى على حسب/استطاعته، وسواء كانت الجنابة من حلال أو حرام، لكن فاعل الحرام عليه جنابة، ونجاسة الذنب‏.‏ فإن تاب وتطهر بالماء، أحبه اللّه‏.‏ فإن اللّه يحب التوابين ويحب المتطهرين‏.‏ وإن تطهر ولم يتب، تطهر من الجنابة، ولم يتطهر من نجاسة الذنب فإن تلك لا يزيلها إلا التوبة‏.‏

وإذا لم يكن معه ما يعطى الحمامي جاز له التيمم، ويصلي بلا ريب‏.‏ وإذا لم يكن ممن ينظره الحمامي، ولم يجد ما يرهنه عنده، ولم يقبل منه فهل عليه أن يدخل بالأجرة المؤجلة‏؟‏ فيه قولان‏:‏ هما وجهان في مذهب أحمد‏.‏

والأظهر‏:‏ أنه إذا كان عادة إظهار الحمامي له أن يغتسل في الحمام كالعادة، وإن منعه الحمامي من الدخول من غير ضرر من أن يوفيه حقه لبعض الحمامي، ونحو ذلك، دخل بغير اختيار الحمامي وأعطاه أجرته‏.‏ وإن لم يكن معه أجرة فمنعه لكونه لم يوفه حقه في الحال، ولا هو ممن يعرفه الحمامي لينظره، فهذا ليس له أن يدخل إلا برضا الحمامي، وإن طابت نفس الحمامي بأخذ ماء في الإناء، ولم تطب نفسه بأن يتطهر في دهاليز أبواب الحمام، جاز له أن يفعل ما تطيب به نفس الحمامي، دون ما لا تطيب إلا بعوض المثل‏.‏

وإنما يجب عليه أن يشتري الماء البارد والحار، ويعطي الحمامي/ أجرة الدخول إذا كان الماء يبذل بثمن المثل، أو بزيادة لا يتغابن الناس بمثلها، مع قدرته على ذلك‏.‏

فإن كان محتاجًا إلى ذلك لنفقته أو نفقة عياله، أو وفاء دينه الذي يطالب به، كان صرف ذلك إلى ما يحتاج إليه من نفقة، أو قضاء دين مقدمًا على صرف ذلك في عوض الماء‏.‏ كما لو احتاج إلى الماء لشرب نفسه، أو دوابه، فإنه يصرفه في ذلك، ويتيمم‏.‏ وإن كانت الزيادة على ثمن المثل لا تجحف بماله، ففي وجوب بذل العوض في ذلك قولان في مذهب أحمد بن حنبل، وغيره‏.‏ وأكثر العلماء على أنه لا يجب‏.‏ واللّه سبحانه أعلم‏.‏

 وَسُئِلَ ‏:‏ عن المرأة يجامعها بعلها، ولا تتمكن من دخول الحمام لعدم الأجرة وغيرها‏.‏ فهل لها أن تتيمم‏؟‏ وهل يكره لبعلها مجامعتها والحالة هذه‏؟‏ وكذلك المرأة يدخل عليها وقت الصلاة ولم تغتسل، وتخاف إن دخلت الحمام أن يفوتها الوقت، فهل لها أن تصلي بالتيمم‏؟‏ أو تصلي في الحمام‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، الجنب سواء كان رجلاً أو امرأة، فإنه إذا / عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله‏.‏ فإن كان لا يمكنه دخول الحمام لعدم الأجرة أو لغير ذلك، فإنه يصلي بالتيمم، ولا يكره للرجل وطء امرأته كذلك، بل له أن يطأها، كما له أن يطأها في السفر، ويصليا بالتيمم‏.‏

وإذا أمكـن الرجـل أو المرأة أن يغتسل ويصلي خـارج الحمام فعـلاً ذلك، فـإن لم يمكن ذلك ـ مثل ألا يستيقظ أول الفجر، وإن اشتغل بطلب الماء خرج الوقت، وإن طلب حطبًا يسخن به الماء، أو ذهب إلى الحمام فات الوقت ـ فإنه يصلي هنا بالتيمم عند جمهور العلماء، إلا أن بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد قالوا‏:‏ يشتغل بتحصيل الطهارة وإن فات الوقت‏.‏ وهكذا قالوا في اشتغاله بخياطة اللباس، وتعلم دلائل القبلة، ونحو ذلك‏.‏

وهذا القول خطأ‏.‏ فإن قياس هذا القول‏:‏ أن المسافر يؤخر الصلاة حتى يصلي بعد الوقت بالوضوء، وأن العريان يؤخر الصلاة حتى يصلي بعد الوقت باللباس‏.‏ وهذا خلاف إجماع المسلمين، بل على العبد أن يصلي في الوقت بحسب الإمكان، وما عجز عنه من واجبات الصلاة سقط عنه‏.‏

وأمـا إذا استـيقظ آخـر الوقت، أو إن اشـتغل باستقاء الماء من/البئر، خرج الوقت، أو إن ذهب إلى الحمام للغسل خرج الوقت، فهذا يغتسل عند جمهور العلماء‏.‏ ومالك ـ رحمـه الله ـ يقـول‏:‏ بل يصلي بالتيمم محافظة على الوقت‏.‏ والجمهور يقـولون‏:‏ إذا استـيقظ آخـر الوقت فهـو ـ حينـئـذ ـ مأمــور بالصــلاة، فـالطهارة والـوقت في حقـه مـن حين استيقظ، وهـو مـا يمكـنـه فعـل الصــلاة فيـه‏.‏ وقـد قـال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏مـن نـام عـن صـلاة أو نسـيها فليصلها إذا ذكـرهـا فـإن ذلك وقتها‏)‏‏.‏ فالـوقت المأمـور بالصـلاة فيـه في حـق النائم هـو إذا استـيقظ، لا مـا قبـل ذلك، وفي حق الناسـي إذا ذكر‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

وأما إذا كانت المرأة أو الرجل يمكنه الذهاب إلى الحمام، لكن إن دخل لا يمكنه الخروج حتى يفوت الوقت، إما لكونه مقهورًا، مثل الغلام الذي لا يخليه سيده يخرج حتى يصلي‏.‏ ومثل المرأة التي معها أولادها فلا يمكنها الخروج حتى تغسلهم، ونحو ذلك‏.‏ فهؤلاء لابد لهم من أحد أمور‏:‏

إما أن يغتسلوا ويصلوا في الحمام في الوقت، وإما أن يصلوا خارج الحمام بعد خروج الوقت، وإما أن يصلوا بالتيمم خارج الحمام‏.‏ وبكل قول من هذه الأقوال يفتي طائفة، لكن الأظهر أنهم يصلون بالتيمم خارج الحمام؛ لأن الصلاة في الحمام منهي عنها، وتفويت الصلاة حتى يخرج الوقت أعظم من ذلك‏.‏ ولا يمكنه الخروج من هذين النهيين إلا بالصلاة /بالتيمم في الوقت خارج الحمام‏.‏

وصار هذا كما لو لم يمكنه الصلاة إلا في موضع نجس في الوقت، أو في موضع طاهر بعد الوقت إذا اغتسل، أو يصلي بالتيمم في مكان طاهر في الوقت، فهذا أولى؛ لأن كلا من ذينك منهي عنه‏.‏

وتنازع الفقهاء فيمن حبس في موضع نجس وصلى فيه‏:‏ هل يعيد‏؟‏ على قولين‏:‏

أصحهما‏:‏ أنه لا إعادة عليه، بل الصحيح الذي عليه أكثر العلماء أنه إن كان قد صلى في الوقت كما أمر بحسب الإمكان، فلا إعادة عليه، سواء كان العذر نادرًا أو معتادًا، فإن الله لم يوجب على العبد الصلاة المعينة مرتين، إلا إذا كان قد حصل منه إخلال بواجب، أو فعل محرم‏.‏ فأما إذا فعل الواجب بحسب الإمكان، فلم يأمره مرتين، ولا أمر اللّه أحدًا أن يصلي الصلاة ويعيدها، بل حيث أمره بالإعادة لم يأمره بذلك ابتداء، كمن صلى بلا وضوء ناسيًا، فإن هذا لم يكن مأمورًا بتلك الصلاة، بل اعتقاد أنه مأمور خطأ منه، وإنما أمره اللّه أن يصلي بالطهارة، فإذا صلى بغير طهارة كان عليه الإعادة، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي توضأ وترك موضع ظفر من قدمه لم يصبه الماء أن يعيد الوضوء والصلاة‏.‏ وكما أمر المسيء في صلاته أن يعيد الصلاة‏.‏ وكما أمر /المصلي خلف الصف وحده أن يعيد الصلاة ‏.‏

فأما العاجز عن الطهارة، أو الستارة، أو استقبال القبلة، أو عن اجتناب النجاسة، أو عن إكمال الركوع، والسجود، أو عن قراءة الفاتحة، ونحو هؤلاء ممن يكون عاجزًا عن بعض واجباتها ، فإن هذا يفعل ما قدر عليه ، ولا إعادة عليه؛ كما قال تعالى ‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏ وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏)‏‏.‏

 وَسُئِلَ ‏:‏ عن المرأة إذا كانت بعيدة عن الحمام وحصل لها جنابة، وتخشى من الغسل في البيت من البرد، هل لها أن تتيمم وتصلي‏؟‏ وإذا أراد زوجها الجماع، وتخاف من البرد عليه وعليها‏.‏ هل له أن يتيمم‏؟‏ أو يغتسل ـ مع القدرة ـ وتتيمم هي‏؟‏ أم يترك الجماع‏؟‏ فإذا جامعها وأرادت الدخول إلى الحمام للتطهر، هل تتيمم وتجمع بين الصلاتين‏؟‏ أو تصلي في الحمام بالغسل‏؟‏ وهل لها إذا طهرت من الحيض ولم تغتسل أن تتيمم ويجامعها زوجها أم لا‏؟‏ وهل يحتاج التيمم للجنابة إلى وضوء /أم لا‏؟‏ وإذا احتاج هل يقدم الوضوء، أم التيمم‏؟‏ وهل يحتاج التيمم لكل صلاة‏؟‏ أم يصلي الصلوات بتيمم واحد‏؟‏ وإذا طهرت المرأة آخر النهار ـ أو آخر الليل ـ وعجزت عن الغسل للبرد وغيره، هل تتيمم وتصلي‏؟‏ وهل تقضي صلاة اليوم الذي طهرت فيه‏؟‏ أو الليلة‏؟‏

ومن أصابه جرح أو كسر وعَصَبَه هل يمسح على العصابة، أم يتيمم عن الوضوء للمجروح‏؟‏ وبعض الأعضاء يعجز عن إمرار الماء عليه بسبب الجرح أو الكسر، وهل يترك الجماع في هذه الحالة، أو يفعله ويتيمم ولو علم أن مدة المداواة تطول فيطول تيممه‏؟‏ وهل للمرأة ـ أيضا ـ منع الزوج من الجماع إذا كانت لا تقدر على الغسل‏؟‏ أم تطيعه وتتيمم‏؟‏ ومن وجد الحمام بعيدًا متى وصل إليه خرج الوقت هل يتيمم أم يذهب إليه ولو خرج الوقت‏؟‏ ومن خاف فوات الجماعة إذا تطهر بالماء هل يتيمم ليحصل على الجماعة، أم لا‏؟‏ ومن معه رفقة يريدون الجمع فهل الأفضل له الجمع معهم لتحصيل الجماعة‏؟‏ أم يصلي وحده في الوقت‏؟‏ وقد يكون هو إمامهم، فأيما أفضل في حقه جمعا، أم الصلاة وحده في وقت كل صلاة‏؟‏ ومن كان له صناعة يعملها هو وصناع آخر، ويشق عليه الصلاة في وقتها، ويبطل الصناع هل يجمع بين الصلاتين‏؟‏ وكذلك إذا كان في حراثة وزراعة ويشق عليه طلب الماء هل يتيمم ويصلي‏؟‏ ومن يتيمم / هل يقرأ القرآن في غير الصلاة‏؟‏ ويصلي ورده بالليل‏؟‏ وهل للمرأة الجنب أو الحائض أن تقرأ على ولدها الصغير‏؟‏ ومن لم يجد ترابا هل يتيمم على البساط أو الحصير إذا كان فيهما غبار‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه رب العالمين، من أصابته جنابة من احتلام أو جماع ـ حلال أو حرام ـ فعليه أن يغتسل ويصلي، فإن تعذر عليه الاغتسال لعدم الماء أو لتضرره باستعماله ـ مثل أن يكون مريضًا يزيد الاغتسال في مرضه، أو يكون الهواء باردًا، وإن اغتسل خاف أن يمرض بصداع أو زكام أو نزلة ـ فإنه يتيمم ويصلي، سواء كان رجلاً أو امرأة، وليس له أن يؤخر الصلاة عن وقتها، وليس للمرأة أن تمنع زوجها من الجماع، بل له أن يجامعها، فإن قدرت على الاغتسال، وإلا تيممت‏.‏

وكذلك الرجل إن قدر على الاغتسال وإلا تيمم، وله أن يجامعها قبل دخول الحمام، فإن قدرت على أن تغتسل وتصلي خارج الحمام فعلت، وإن خافت أن تفوتها الصلاة استترت في الحمام وصلت، ولا تفوت الصلاة، والجمع بين الصلاتين بطهارة كاملة بالماء خير من أن يفرق بين الصلاتين بالتيمم، كما أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المستحاضة أن تجمع بين الصلاتين بغسل واحد، وجعل ذلك خيرًا من التفريق بوضوء‏.‏

/وأيضًا، فالجمع بين الصلاتين مشروع لحاجة دنيوية، فلأن يكون مشروعًا لتكميل الصلاة أولى، والجامع بين الصلاتين مصل في الوقت‏.‏ والنبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بعرفة في وقت الظهر؛ لأجل تكميل الوقوف واتصاله، وإلا فقد كان يمكنه أن ينزل فيصلي، فجمع بين الصلاتين لتكميل الوقوف، فالجمع لتكميل الصلاة أولى‏.‏

وأيضًا، فإنه جمع بالمدينة للمطر، وهو نفسه صلى الله عليه وسلم لم يكن يتضرر بالمطر، بل جمع لتحصيل الصلاة في الجماعة، والجمع لتحصيل الجماعة خير من التفريق والانفرد، والجمع بين الصلاتين خير من الصلاة في الحمام، فإن أعطان الإبل والحمام نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيهما، والجمع مشروع‏.‏ بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها‏)‏ ثم إنه لما نام عن الصلاة انتقل، وقال‏:‏ ‏(‏هذا وادٍ حضرنا فيه الشيطان‏)‏ فأخر الصلاة عن الوقت المأمور به لكون البقعة حضر فيها الشيطان، وتلك البقعة تكره الصلاة فيها وتجوز، لكن يستحب الانتقال عنها، وقد نص على ذلك أحمد بن حنبل وغيره‏.‏

والحمام وأعطان الإبل مسكن الشياطين؛ ولهذا حرم الصلاة فيها، والجمع مشروع للمصلحة الراجحة‏.‏ فإذا جمع لئلا يصلي في أماكن/ الشياطين، كان قد أحسن، والمرأة إذا لم يكن يمكنها الجمع بطهارة الماء جمعت بطهارة التيمم، فإن الصلاة بالتيمم في الوقت المشروع خير من التفريق ومن الصلاة في الأماكن المنهي عنها، وإذا أمكن الرجل والمرأة أن يتوضأ ويتيمما فعلاً، فإن اقتصرا على التيمم أجزأهما في إحدى الروايتين للعلماء‏.‏

ومذهب أبي حنيفة ومالك لا يجمع بين طهارة الماء وطهارة التيمم ـ بين الأصل والبدل ـ بل إما هذا وإما هذا‏.‏ ومذهب الشافعي وأحمد ‏:‏ بل يغتسل بالماء ما أمكنه، ويتيمم للباقى‏.‏ وإذا توضأ وتيمم فسواء قدم هذا أو هذا، لكن تقديم الوضوء أحسن‏.‏ ويجوز أن يصلي الصلوات بتيمم واحد، كما يجوز بوضوء واحد، وغسل واحد، في أظهر قولى العلماء‏.‏ وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين‏.‏ فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك فإن ذلك خير‏)‏‏.‏

والمرأة إذا طهرت من الحيض، فإن قدرت على الاغتسال، وإلا تيممت وصلت‏.‏ فإن طهرت في آخر النهار صلت الظهر والعصر‏.‏ وإن طهرت في آخر الليل صلت المغرب والعشاء، ولا يقضي أحد ما صلاه بالتيمم‏.‏ وإذا كان الجرح مكشوفا وأمكن مسحه بالماء، فهو خير من التيمم‏.‏

/وكذلك إذا كان معصوبًا أو كسر عظمه فوضع عليه جبيرة فمسح ذلك الماء خير من التيمم، والمريض والجريح والمسكور إذا أصابته جنابة بجماع وغيره ـ والماء يضره ـ يتيمم ويصلي، أو يمسح على الجبيرة ويغسل سائر بدنه ـ إن أمكنه ـ ويصلي‏.‏

وليس للمرأة أن تمنع زوجها الجماع، بل يجامعها، فإن قدرت على الاغتسال، وإلا تيممت وصلت‏.‏ وإذا طهرت من الحيض لم يجامعها إلا بعد الاغتسال، وإلا تيممت ووطئها زوجها‏.‏ ويتيمم الواطئ حيث يتيمم للصلاة‏.‏

وإذا دخل وقت الصلاة كطلوع الفجر، ولم يمكنه ـ إذا اغتسل ـ أن يصلي حتى تطلع الشمس، لكون الماء بعيدًا، أو الحمام مغلوقا، أو لكونه فقيرًا وليس معه أجرة الحمام، فإنه يتيمم ويصلي في الوقت، ولا يؤخر الصلاة حتى يفوت الوقت‏.‏ وأما إذا استيقظ ـ وقد ضاق الوقت عن الاغتسال ـ فإن كان الماء موجودًا، فهذا يغتسـل ويصلي بعـد طلوع الشمس ـ عند أكثر العلماء ـ فإن الوقت في حقه من حين استيقظ بخلاف اليقظان فإن الوقت في حقه من حين طلوع الفجر‏.‏

ولا بد من الصلاة في وقتها، ولا يجوز تأخيرها عن الوقت لأحد أصلاً، لا بعذر، ولا بغير عذر، لكن يصلي في الوقت بحسب الإمكان/فيصلي المريض بحسب حاله في الوقت‏.‏ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين‏:‏ ‏(‏صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب‏)‏ فيصلي في الوقت قاعدًا، ولا يصلي بعد خروج الوقت قائمًا، وكذلك العراة، كالذين انكسرت بهم السفينة يصلون في الوقت عراة، ولا يؤخرونها ليصلوا في الثياب بعد الوقت‏.‏

وكذلك من اشتبهت عليه القبلة، فيصلي في الوقت بالاجتهاد، والتقليد، ولا يؤخرها ليصلي بعد الوقت باليقين‏.‏

وكذلك من كان عليه نجاسة في بدنه أو ثوبه، لا يمكنه إزالتها حتى تفوت الصلاة، فيصلي بها في الوقت، ولا يفوت الصلاة ليصلي طاهرًا‏.‏

وكذلك من حبس في مكان نجس، أو كان في حمام، أو غير ذلك مما نهي عن الصلاة فيه، ولا يمكنه الخروج منه حتى تفوت الصلاة، فإنه يصلي في الوقت، ولا يفوت الصلاة ليصلي في غيره‏.‏ فالصلاة في الوقت فرض بحسب الإمكان، والاستطاعة‏.‏ وإن كانت صلاة ناقصة حتى الخائف يصلي صلاة الخوف في الوقت بحسب الإمكان، ولا يفوتها ليصلي صلاة أمن بعد خروج الوقت، حتى في حال المقاتلة يصلي ويقاتل ولا يفوت الصلاة ليصلي بلا قتال، فالصلاة المفروضة في الوقت وإن كانت ناقصة خير من تفويت الصلاة بعد الوقت وإن كانت كاملة / بل الصلاة بعد تفويت الوقت عمدًا لا تقبل من صاحبها، ولا يسقط عنه إثم التفويت المحرم، ولو قضاها باتفاق المسلمين‏.‏

 

فصــل

وأما إذا خاف فوات الجنازة أو العيد، أو الجمعة، ففي التيمم نزاع‏.‏ والأظهر‏:‏ أنه يصليها بالتيمم، ولا يفوتها، وكذلك إذا لم يمكنه صلاة الجماعة الواجبة إلا بالتيمم، فإنه يصليها بالتيمم‏.‏

ومذهب أحمد في إحدى الروايتين أنه يجوز التيمم للجنازة ـ مع أنه لا يختلف قوله في أنه يجوز أن يعيدها بوضوء ـ فليست العلة على مذهبه تعذر الإعادة، بخلاف أبي حنيفة فإنه إنما علل ذلك بتعذر الإعادة، وفرق بين الجنازة، وبين العيد والجمعة،وأحمد لا يعلل بذلك فكيف والجمعة لا تعاد‏؟‏‏!‏ وإنما تصلي ظهرا‏.‏ وليست صلاة الظهر كالجمعة‏.‏

وكذلك إذا لم يمكنه صلاة الجمعة الواجبة إلا بالتيمم، فإنه يصليها بالتيمم، والجمع بين الصلاتين حيث يشرع في الصلاة في وقتها ليس بمفوت، ولا يشترط للقصر ولا للجمع نية عند أكثر العلماء، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وهو إحدى القولين في مذهب أحمد، بل عليه يدل كلامه، وهو المنصوص عليه‏.‏

/ والقول الآخر‏:‏ اختيار بعض أصحابه، وهو قول الشافعي‏.‏

والجمع بين الصلاتين يجوز لعذر؛ فالمسافر إذا جد به السير جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء‏.‏ والمسافرون إذا غلب عليهم النعاس وشق عليهم انتظار العشاء جمعوا بينها وبين المغرب، ولو كان الإمام لا ينام، فصلاته بهم إمامًا جامعًا بين الصلاتين خير من صلاته وحده غير جامع‏.‏

والحراث إذا خاف إن طلب الماء يسرق ماله، أو يتعطل عمله الذي يحتاج إليه صلى بالتيمم‏.‏ وإن أمكنه أن يجمع بين الصلاتين بوضوء فهو خير من أن يفرق بينهما‏.‏ وكذلك سائر الأعذار الذين يباح لهم التيمم إذا أمكنهم الجمع بينهما بطهارة الماء فهو خير من التفريق بينهما بطهارة التيمم، والجمع بين الصلاتين لمن له عذر كالمطر والريح الشديدة الباردة؛ ولمن به سلس البول، والمستحاضة‏:‏ فصلاتهم بطهارة كاملة جمعًا بين الصلاتين، خير من صلاتهم بطهارة ناقصة مفرقًا بينهما‏.‏

والمريض ـ أيضًا ـ له أن يجمع بين الصلاتين، لاسيما إذا كان مع الجمع صلاته أكمل‏.‏ إما لكمال طهارته، وإما لإمكان القيام، ولو كانت الصلاتان سواء‏.‏ لكن إذا فرق بينهما زاد مرضه، فله الجمع بينهما‏.‏

/وقال أحمد بن حنبل‏:‏ يجوز الجمع إذا كان لشغل‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ الشغل الذي يبيح ترك الجمعة والجماعة‏.‏ وقال الشيخ موفق الدين بن قدامة المقدسي ـ مبينًا عن هؤلاء ـ وهو المريض، ومن له قريب يخاف موته، ومن يدافع أحدًا من الأخبثين، ومن يحضره طعام وبه حاجة إليه، من يخاف من سلطان يأخذه، أو غريم يلازمه ولا شيء معه يعطيه، والمسافر إذا خاف فوات القافلة، ومن يخاف ضررًا في ماله، ومن يرجو وجوده، ومن يخاف من غلبة النعاس حتى يفوته الوقت، ومن يخاف من شدة البرد، وكذلك في الليلة المظلمة إذا كان فيها وحل ـ فهؤلاء يعذروا وإن تركوا الجمعة والجماعة‏.‏ كذا حكاه ابن قدامة في ‏(‏مختصر الهداية‏)‏‏.‏ فإنه يبيح لهم الجمع بين الصلاتين على ما قاله الإمام أحمد بن حنبل، والقاضي أبو يعلى‏.‏

والصناع والفلاحون إذا كان في الوقت الخاص مشقة عليهم ـ مثل أن يكون الماء بعيدًا في فعل صلاة، وإذا ذهبوا إليه وتطهروا تعطل بعض العمل الذي يحتاجون إليه ـ فلهم أن يصلوا في الوقت المشترك فيجمعوا بين الصلاتين‏.‏ وأحسن من ذلك أن يؤخروا الظهر إلى قُرَيْب العصر فيجمعوها ويصلوها مع العصر، وإن كان ذلك جمعًا في آخر وقت الظهر، وأول وقت العصر‏.‏ ويجوز ـ مع بعد الماء ـ أن يتيمم ويصلي في الوقت الخاص‏.‏ والجمع بطهارة الماء أفضل‏.‏ والحمد للّه وحده‏.‏

/ فصــل

كل من جاز له الصلاة بالتيمم ـ من جنب، أو محدث ـ جاز له أن يقرأ القرآن خارج الصلاة، ويمس المصحف، ويصلي بالتيمم النافلة، والفريضة، ويرقى بالقرآن وغير ذلك‏.‏ فإن الصلاة أعظم من القراءة، فمن صلى بالتيمم كانت قراءته بالتيمم أولى، والقراءة خارج الصلاة أوسع منها في الصلاة، فإن المحدث يقرؤه خارج الصلاة، وكل ما يفعله بطهارة الماء في الوضوء والغسل، يفعله بطهارة التيمم إذا عدم الماء، أو خاف الضرر باستعماله‏.‏

وإذا أمكن الجنب الوضوء دون الغسل، فتوضأ وتيمم عن الغسل، جاز‏.‏ وإن تيمم ولم يتوضأ، ففيه قولان‏:‏ قيل‏:‏ يجزيه عن الغسل، وهو قول مالك وأبي حنيفة‏.‏ وقيل‏:‏ لا يجزيه، وهو قول الشافعي، وأحمد بن حنبل‏.‏

وإذا تيمم بالتراب الذي تحت حصير بيته، جاز، وكذلك إذا كان هناك غبار لاصق ببعض الأشياء وتيمم بذلك التراب اللاصق جاز‏.‏ وأما قراءة الجنب والحائض للقرآن فللعلماء فيه ثلاثة أقوال‏:‏

/قيل‏:‏ يجوز لهذا ولهذا، وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد‏.‏

وقيل‏:‏ لا يجوز للجنب، ويجوز للحائض، إما مطلقا، أو إذا خافت النسيان، وهو مذهب مالك‏.‏ وقول في مذهب أحمد وغيره‏.‏ فإن قــراءة الحائض القرآن لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء غير الحديث المروي عن إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر‏:‏ ‏(‏لا تقرأ الحائض ولا الجنب من القرآن شيئا‏)‏‏.‏ رواه أبو داود وغيره‏.‏ وهو حديث ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث‏.‏

وإسماعيل بن عياش ما يرويه عن الحجازيين، أحاديث ضعيفة، بخلاف روايته عن الشاميين، ولم يرو هذا عن نافع أحد من الثقات‏.‏ ومعلوم أن النساء كن يحضن على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يكن ينههن عن قراءة القرآن‏.‏ كما لم يكن ينههن عن الذكر والدعاء بل أمر الحِيَّض أن يخرجن يوم العيد، فيكبرن بتكبير المسلمين‏.‏ وأمر الحائض أن تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت‏:‏ تلبي وهي حائض، وكذلك بمزدلفة ومنى، وغير ذلك من المشاعر‏.‏

وأما الجنب، فلم يأمره أن يشهد العيد، ولا يصلي، ولا أن يقضي شيئًا من المناسك؛ لأن الجنب يمكنه أن يتطهر فلا عذر له في/ترك الطهارة، بخلاف الحائض فإن حدثها قائم لا يمكنها مع ذلك التطهر‏.‏ ولهذا ذكر العلماء‏:‏ ليس للجنب أن يقف بعرفة ومزدلفة ومنى حتى يطهر ـ وإن كانت الطهارة ليست شرطا في ذلك ـ لكن المقصود أن الشارع أمر الحائض أمر إيجاب أو استحباب بذكر اللّه ودعائه مع كراهة ذلك للجنب‏.‏

فعلم أن الحائض يرخص لها فيما لا يرخص للجنب فيه؛ لأجل العذر‏.‏ وإن كانت عدتها أغلظ، فكذلك قراءة القرآن لم ينهها الشارع عن ذلك‏.‏

وإن قيل‏:‏ إنه نهي الجنب؛ لأن الجنب يمكنه أن يتطهر، ويقرأ، بخلاف الحائض، تبقى حائضا أياما فيفوتها قراءة القرآن، تفويت عبادة تحتاج إليها ـ مع عجزها عن الطهارة ـ وليست القراءة كالصلاة، فإن الصلاة يشترط لها الطهارة مع الحدث الأكبر، والأصغر، والقراءة تجوز مع الحدث الأصغر بالنص، واتفاق الأئمة‏.‏

والصلاة يجب فيها استقبال القبلة واللباس، واجتناب النجاسة، والقراءة لا يجب فيها شيء من ذلك، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع رأسه في حجر عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ وهي حائض، وهو حديث صحيح‏.‏ وفي صحيح مسلم أيضًا‏:‏ يقول اللّه ـ عز وجل ـ للنبي/ صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إني منزل عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرأه نائمًا، ويقظانًا‏)‏ فتجوز القراءة قائمًا، وقاعدًا وماشيًا، ومضطجعًا‏.‏ وراكبًا‏.‏

 وَسُئِلَ عن رجل أرمد فلحقته جنابة، ولا يقدر أن يتطهر بماء مسخن، ولا بارد، ويقدر على الوضوء، فما يصنع ‏؟‏

فأجاب ‏:‏

الحمد للّه، إذا كان به رمد، فإنه يغسل ما استطاع من بدنه‏.‏ وما يضره الماء ـ كالعين وما يقاربها ـ ففيه قولان للعلماء ‏:‏

أحدهما ‏:‏ يتيمم، وهو مذهب الشافعي وأحمد‏.‏

والثاني‏:‏ ليس عليه تيمم، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، لكن غسل أكثر البدن الذي يمكن غسله واجب باتفاقهم‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وَسُئِل‏:‏َ عن رجل باشر امرأته وهو في عافية، فهل له أن يصبر بالتطهر إلى أن يتضاحى النهار‏؟‏ أم يتيمم ويصلي‏؟‏ أفتونا مأجورين ‏؟‏ ‏.‏

/فأجاب ‏:‏

الحمد للّه، لا يجوز له تأخير الصلاة حتى يخرج الوقت، بل عليه ـ إن قدر على الاغتسال بماء بارد أو حار ـ أن يغتسل ويصلي في الوقت، وإلا تيمم‏.‏ فإن التيمم لخشية البرد جائز باتفاق الأئمة، وإذا صلى بالتيمم فلا إعادة عليه، لكن إذا تمكن من الاغتسال اغتسل‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وَسُئِلَ‏:‏ عن امرأة بها مرض في عينيها، وثقل في جسمها من الشحم، وليس لها قدرة على الحمام؛ لأجل الضرورة، وزوجها لم يدعها تطهر، وهي تطلب الصلاة، فهل يجوز لها أن تغسل جسمها الصحيح‏؟‏ وتتيمم عن رأسها ‏؟‏

فأجاب ‏:‏

نعم، إذا لم تقـدر على الاغتسال في المـاء البارد، ولا الحـار فعليها أن تصلي في الوقت

بالتيمم، عند جماهير العلماء، لكن مذهب الشافعي وأحمد أنها تغسل ما يمكن، وتتيمم للباقي‏.‏ ومذهب أبي حنيفة ومالك‏:‏ إن غسلت الأكثر، لم تتيمم‏.‏ وإن لم يمكن إلا غسل الأقل، تيممت، ولا غسل عليها‏.‏

/ وَسُئِلَ عن رجل سافر مع رفقة وهو إمامهم‏.‏ ثم احتلم في يوم شديد البرد، وخاف على نفسه أن يقتله البرد فتيمم، وصلى بهم، فهل يجب عليه إعادة‏؟‏ وعلى من صلى خلفه أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

هذه المسألة هي ثلاث مسائل‏:‏

الأولى‏:‏ أن تيممه جائز، وصلاته جائزة، ولا غسل عليه، والحالة هذه‏.‏ وهذا متفق عليه بين الأئمة، وقد جاء في ذلك حديث في السنن، عن عمرو بن العاص أنه فعل ذلك على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فصلى بأصحابه بالتيمم في السفر، وإن ذلك ذكر للنبي وكذلك هذا معروف عن ابن عباس‏.‏

الثانية‏:‏ أنه هل يؤم المتوضئين‏؟‏ فالجمهور على أنه يؤمهم، كما أمهم عمرو بن العاص، وابن عباس، وهذا مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وأصح القولين في مذهب أبي حنيفة‏.‏ ومذهب أبي محمد أنه لا يؤمهم‏.‏

/الثالثة‏:‏ في الإعادة، فالمأموم لا إعادة عليه‏.‏ بالاتفاق، مع صحة صلاته، وأما الإمام أو غيره إذا صلى بالتيمم لخشية البرد، فقيل‏:‏ يعيد مطلقًا، كقول الشافعي‏.‏ وقيل‏:‏ يعيد في الحضر فقط، دون السفر‏.‏ كقول له، ورواية عن أحمد، وقيل‏:‏ لا يعيد مطلقًا كقول مالك، وأحمد في الرواية الأخرى‏.‏ وهذا هو الصحيح؛ لأنه فعل ما قدر عليه، فلا إعادة عليه؛ ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص بإعادة، ولم يثبت فيه دليل شرعي يفرق بين الأعذار المعتادة، وغير المعتادة‏.‏ واللّه أعلم‏.‏